هي سيدة نساء العالمين في زمانها، وهي آية من آيات الله عز وجل للعالمين: {وجعلناها وابنها آية للعالمين} [الأنبياء:91].
إصطفاها الله وإختارها على كل نساء الأرض، وهي ممن شهد لهن النبي صلى الله عليه وسلم بالكمال: «كَمَلَ مِنْ الرِّجَالِ كَثِيرٌ وَلَمْ يَكْمُلْ مِنْ النِّسَاءِ إِلَّا آسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» رواه البخاري.
حياتها كانت سلسلة من الامتحانات والابتلاءات الشديدة، وكانت أزهد الناس وأعبدهم في زمانها، ألقت الدنيا بزخارفها ومباهجها خلف ظهرها ورغبت فيما عند الله، وصبرت على لأواء العيش وشظفه: {ما عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل:96].
أعلى الله من ذكرها ورفع قدرها، فذكرها في العديد من المواضع في كتابه العزيز، بل وأنزل سورة كاملة باسمها تكريما لها.
¤ ولادتـــــها:
كانت -حنّة- أم السيدة مريم عاقرا لا تنجب أطفالا، وكانت تتألم أشد الألم لذلك، وكثيرا ما كانت تبكي وتتوجه ببصرها إلى السماء، وتدعو الله أن يمن عليها ويرزقها بالذرية الصالحة التي تقر بها عينها، ولقد بلغ من إشتياقها للأمومة أن رأت فرخا صغيرا يأوي إلى جناح أمه فتألمت وتمنت وبللت خديها بدموع الرجاء.
وبعد فترة من الزمن من الله عليه فحملت وكانت سعادتها بهذا الحمل لا توصف، وسجدت لله شكرا على هذه النعمة ثم رفعت يديها وقالت: {رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [آل عمران:35].
ومرت أيام وشهور الحمل ومات عمران أبو مريم وهي ما تزال في بطن أمها، وكانت -حنّة- تتمنى أن يكون المولود ذكرا لتهبه لخدمة بيت المقدس ولكن الأمور سارت على غير ما تشتهي ورزقت ببنت والبنت لا تقوم بالخدمة في المسجد كما يقوم الرجل، فأبدت حنة بعض الأسف والعذر: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى}، {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى} أي في خدمة الهيكل والتفرغ لمهامه، وأضافت: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} تأكيدا على نذرها: قيل إن اسم مريم يعني في اللغات القديمة: العابدة، وسألت الله أن يحفظها من السوء ويقيها من همزات الشياطين: {وإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}.
حملتها أمها في لفائفها إلى الهيكل وكانت تذهب إليها بين الحين والحين تتفقد أحوالها.
وتكفل زكريا عليه السلام زوج خالتها برعايتها وتربيتها وشبت مريم وبيتها في المسجد: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَنا} [آل عمران:37].
¤ إن الله يرزق من يشاء بغير حساب!
نشأت مريم عليها السلام في خلوة المسجد عابدة زاهدة، تحيي الليل بالذكر والعبادة والصلاة وتصوم النهار وتعيش للآخرة، وكان زكريا عليه السلام يدخل عليها ليتفقد أحوالها، وفوجئ في إحدى المرات بوجود فاكهة في غير أوانها عند السيدة مريم، فسأل مستنكرا: {يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا} فأجابت السيدة مريم في هدوء وطمأنينة: {هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
وتكرر ذلك مرات ومرات {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} وكان زكريا عليه السلام يسأل نفس السؤال ولا يحظى إلا بنفس الجواب.
إن الله عز وجل ينعم على أوليائه بالرزق الوفير ويكرمهم به إذا ضاق بهم الحال وإشتدت من حولهم الأمور من باب اللطف بهم وإظهار قدرته ومعجزاته لهم، وتذكيراً لهم بأنه عز وجل لا يضيع أهله وعباده المتقين وقد حدث مثل ذلك مع السيدة هاجر أم إسماعيل عليه السلام عندما تركهما إبراهيم عليه السلام وسط الجبال المقفرة، فأجرى الله لهما ماء زمزم، وحدث مثل ذلك مع خبيب بن عدي رضي الله عنه عندما أسره المشركون وإقتادوه إلى مكة ليقتلوه فكان يأكل عنبا وليس بمكة كلها عنب.
¤ الإمتحان الأكبر:
كان الإمتحان الأكبر في حياة مريم الزاهدة العابدة أن يبشرها الله سبحانه وتعالى بولد وهي غير متزوجة، ويا له من إمتحان ويا له من إبتلاء شديد!. إنتفضت السيدة مريم وإرتاعت لهذه البشرى العجيبة التي تتصادم مع نواميس الحياة ثم قالت: {قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} [مريم:20].
وتأتي الإجابة على لسان جبريل عليه السلام: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} [مريم:21].
إن الأمر ليس فيه حرج ولا صعوبة على الله، فهو سبحانه الذي صنع هذه النواميس وهو الذي يخرقها بقدرته متى شاء.
¤ الخروج من بيت المقدس:
بدأت السيد مريم تشعر بحملها شيئا فشيئا فقررت الخروج من الهيكل وتوجهت إلى الناصرة بحجة التعب والمرض وإعتزلت الناس في بيت ريفي تنتظر قضاء الله، ولما أزف أوان الوضع خرجت تهيم على وجهها في البراري والقفار لا تدري إلى أين تتوجه أو إلى من تأوي، وجاءها المخاض عند جذع نخلة يابسة فملأها الغم ولم تستطع أن تتحرك وهي تتمزق من الحزن، ووضعت طفلها عيسى عليه السلام، وفي هذه اللحظة العصيبة تمنت الموت: {قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً} [مريم:23].
إن المرأة العفيفة الشريفة تتمنى الموت على أن تتهم في براءتها أو عفتها.. وهنا تأتيها ألطاف الله لتهدئ من روعها وتطمئنها بأن الله يرعاها ويحفظها: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً*وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً*فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أحداً َفقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيّاً} [مريم:24-26].
¤ المواجهة والمعجزة:
حملت السيد مريم وليدها وعادت به إلى قريتها، وهناك في الناصرة ذاع الخبر وشاع وأرجف المرجفون، ورماها الناس بالزنا والوقوع في الخطيئة، ثم واجهوها بالثورة عليها وقالوا: {يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّا}، لقد افتريت فرية ضخمة بعد أن كنت مثالا للطهر والعفاف! {مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً}، لقد كان أبوك من خيرة الناس وصاحب صلاتنا وكانت أمك امرأة عفيفة شريفة يقدرها ويحترمها الجميع!.
يا أسفاً عليك لقد لوثت شرف هذه العائلة الكريمة في لحظة طيش وثورة شهوة!.، تحملت السيدة مريم كل هذه الإفتراءات بصبر وجلد وكظمت غيظها ثم أشارت إلى وليدها في ثقة وطمأنينة، وعندئذ إشتد غضب المستفسرين وزادت نقمتهم عليها وقالوا: {كيف نكلم من كان في المهد صبي}؟! ولكنهم سرعان ما خرسوا وأخذتهم الدهشة.. لقد أنطق الله تعالى الطفل فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً*وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً*وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً*وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم:30-33].
وكان ذلك الدليل البين والدامغ على براءة السيدة مريم عليها السلام مما نسبوه إليها من الإفتراءات والبهتان.
لقد برأ الله ساحة مريم بمعجزة شاهدوها بأعينهم وصدق الله العظيم القائل: {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا{ الحج:38].
¤ الدروس والعبر...
إن في قصة مريم عليه السلام دروسا وعبرا منها:
1= إن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء، فهو سبحانه الذي وضع النواميس وهو الذي يخرقها متى شاء، فكم من امرأة أجمع الأطباء علي أنها عاقر، ثم أنجبت بفضل الله وقدرته، وكم من مريض يئس الأطباء من برئه، ثم عافاه الله كأن لم يكن به داء.
2= إن الدعاء والتضرع إلى الله من أهم ما يتعبد به المسلم والمسلمة إلى الله ومن أدام القرع فُتح له.
3= كانت مريم عليها السلام مثالا للفتاة المؤمنة بالله عز وجل، التي تجد أنسها وسلوتها في طاعة الله والتقرب إليه بشتى أنواع العبادات.
4= ضربت أروع المثل في الحفاظ على شرفها وعفتها وطهارتها، حتى إنها تمنت الموت على أن تتهم في عرضها.
5= صبرت على ما أصابها من أذىً من قومها وتحملت ما رموها به من افتراءات بشعة حتى أظهر الله براءتها بمعجزة من عنده.
الكاتب: جهلان إسماعيل.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.